القرآن الكريم » تفسير الطبري » سورة العنكبوت
الم (1) (العنكبوت) 

الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { الم } قَالَ أَبُو جَعْفَر : اِخْتَلَفَتْ تَرَاجِمَة الْقُرْآن فِي تَأْوِيل قَوْل اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { الم } فَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 184 -حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن يَحْيَى , قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّزَّاق , قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَر , عَنْ قَتَادَة فِي قَوْله : { الم } قَالَ : اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن 185 - حَدَّثني الْمُثَنَّى بْن إِبْرَاهِيم الْآمُلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة مُوسَى بْن مَسْعُود قَالَ : حَدَّثَنَا شِبْل عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد قَالَ : { الم } اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن 186 - حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن دَاوُد , قَالَ : حَدَّثني حَجَّاج , عَنْ اِبْن جُرَيْج قَالَ : { الم } اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ فَوَاتِح يَفْتَح اللَّه بِهَا الْقُرْآن . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 187 - حَدَّثني هَارُون بْن إِدْرِيس الْأَصَمّ الْكُوفِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد الْمُحَارِبِيّ , عَنْ اِبْن جُرَيْج , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : { الم } فَوَاتِح يَفْتَح اللَّه بِهَا الْقُرْآن . حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن حَازِم الْغِفَارِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْم , قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : { الم } فَوَاتِح . حَدَّثني الْمُثَنَّى بْن إِبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن الْحَجَّاج , عَنْ يَحْيَى بْن آدَم , عَنْ سُفْيَان , عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : { الم } و { حم } و { المص } و { ص } فَوَاتِح اِفْتَتَحَ اللَّه بِهَا . حَدَّثَنَا الْقَاسِم بْن الْحَسَن , قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْن , قَالَ : حَدَّثني حَجَّاج , عَنْ اِبْن جُرَيْج , عَنْ مُجَاهِد مِثْل حَدِيث هَارُون بْن إِدْرِيس . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ اِسْم لِلسُّورَةِ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 188 - حَدَّثني يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : أَنْبَأَنَا عَبْد اللَّه بْن وَهْب , قَالَ : سَأَلْت عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَم , عَنْ قَوْل اللَّه : { الم ذَلِكَ الْكِتَاب } و { الم تَنْزِيل } و { المر تِلْكَ } فَقَالَ : قَالَ أَبِي : إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاء السُّوَر. وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 189 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَة , قَالَ : سَأَلْت السُّدِّيّ عَنْ { حم } و { طسم } و { الم } فَقَالَ قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم . حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى , قَالَ : حَدَّثني أَبُو النُّعْمَان , قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ إِسْمَاعِيل السُّدِّيّ , عَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , قَالَ : قَالَ عَبْد اللَّه فَذَكَرَ نَحْوه. 190 - حَدَّثني الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن الْحَجَّاج , عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن مُوسَى , عَنْ إِسْمَاعِيل , عَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ : فَوَاتِح السُّوَر مِنْ أَسْمَاء اللَّه . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ قَسَم أَقْسَمَ اللَّه بِهِ وَهِيَ مِنْ أَسْمَائِهِ . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 191 - حَدَّثني يَحْيَى بْن عُثْمَان بْن صَالِح السَّهْمِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح , قَالَ : حَدَّثني مُعَاوِيَة بْن صَالِح , عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة , عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَالَ : هُوَ قَسَم أَقْسَمَ اللَّه بِهِ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاء اللَّه . 192 حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا اِبْن عُلَيَّة , قَالَ : حَدَّثَنَا خَالِد الْحَذَّاء عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : { الم } قَسَم . وَقَالَ بَعْضهمْ : هُوَ حُرُوف مُقَطَّعَة مِنْ أَسْمَاء وَأَفْعَال , كُلّ حَرْف مِنْ ذَلِكَ لِمَعْنًى غَيْر مَعْنَى الْحَرْف الْآخَر . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 193 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : حَدَّثَنَا وَكِيع , وَحَدَّثَنَا سُفْيَان بْن وَكِيع , قَالَ : حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي شَرِيك , عَنْ عَطَاء بْن السَّائِب , عَنْ أَبِي الضُّحَى , عَنْ اِبْن عَبَّاس : { الم } قَالَ : أَنَا اللَّه أَعْلَم . 194 - وَحَدَّثَنَا عَنْ أَبِي عُبَيْد قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَقْظَان , عَنْ عَطَاء بْن السَّائِب , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , قَالَ قَوْله : { الم } قَالَ : أَنَا اللَّه أَعْلَم . 195 -حَدَّثني مُوسَى بْن هَارُون الْهَمْدَانِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن حَمَّاد الْقَنَّاد , قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاط بْن نَصْر , عَنْ إِسْمَاعِيل السُّدِّيّ فِي خَبَر ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِك , وَعَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ اِبْن عَبَّاس , وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ , عَنْ اِبْن مَسْعُود , وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الم } قَالَ : أَمَّا : { الم } فَهُوَ حَرْف اُشْتُقَّ مِنْ حُرُوف هِجَاء أَسْمَاء اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ . 196 حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَعْمَر , قَالَ : حَدَّثَنَا عَبَّاس بْن زِيَاد الْبَاهِلِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَة , عَنْ أَبِي بِشْر , عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر , عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله : { الم } و { حم } و { ن } قَالَ : اِسْم مُقَطَّع . وَقَالَ بَعْضهمْ : هِيَ حُرُوف هِجَاء مَوْضُوع . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 197 - حَدَّثَنَا عَنْ مَنْصُور بْن أَبِي نُوَيْرَة , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد الْمُؤَدِّب , عَنْ خُصَيْف , عَنْ مُجَاهِد , قَالَ : فَوَاتِح السُّوَر كُلّهَا { ق } و { ص } و { حم } و { طسم } و { الر } وَغَيْر ذَلِكَ هِجَاء مَوْضُوع . وَقَالَ بَعْضهمْ : هِيَ حُرُوف يَشْتَمِل كُلّ حَرْف مِنْهَا عَلَى مَعَانٍ شَتَّى مُخْتَلِفَة ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 198 - حَدَّثني الْمُثَنَّى بْن إِبْرَاهِيم الطَّبَرِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن الْحَجَّاج , عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر الرَّازِيّ قَالَ : حَدَّثني أَبِي , عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى ذِكْره : { الم } قَالَ : هَذِهِ الْأَحْرُف مِنْ التِّسْعَة وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا , دَارَتْ فِيهَا الْأَلْسُن كُلّهَا , لَيْسَ مِنْهَا حَرْف إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاح اِسْم مِنْ أَسْمَائِهِ , وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْف إِلَّا وَهُوَ فِي آلَائِهِ وَبَلَائِهِ , وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْف إِلَّا وَهُوَ مُدَّة قَوْم وَآجَالهمْ . وَقَالَ عِيسَى اِبْن مَرْيَم : " وَعَجِيب يَنْطِقُونَ فِي أَسْمَائِهِ , وَيَعِيشُونَ فِي رِزْقه , فَكَيْفَ يَكْفُرُونَ " ؟ قَالَ : الْأَلِف : مِفْتَاح اِسْمه " اللَّه " , وَاللَّام : مِفْتَاح اِسْمه " لَطِيف " , وَالْمِيم : مِفْتَاح اِسْمه " مَجِيد " ; وَالْأَلِف : آلَاء اللَّه , وَاللَّام : لُطْفه , وَالْمِيم : مَجْده ; الْأَلِف : سَنَة , وَاللَّام ثَلَاثُونَ سَنَة , وَالْمِيم : أَرْبَعُونَ سَنَة. حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : حَدَّثَنَا حَكَّام عَنْ أَبِي جَعْفَر , عَنْ الرَّبِيع بِنَحْوِهِ. وَقَالَ بَعْضهمْ : هِيَ حُرُوف مِنْ حِسَاب الْجُمَّل , كَرِهْنَا ذِكْر الَّذِي حُكِيَ ذَلِكَ عَنْهُ , إِذْ كَانَ الَّذِي رَوَاهُ مِمَّنْ لَا يُعْتَمَد عَلَى رِوَايَته وَنَقْله , وَقَدْ مَضَتْ الرِّوَايَة بِنَظِيرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَوْل عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس . وَقَالَ بَعْضهمْ : لِكُلِّ كِتَاب سِرّ , وَسِرّ الْقُرْآن فَوَاتِحه. وَأَمَّا أَهْل الْعَرَبِيَّة فَإِنَّهُمْ اِخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضهمْ : هِيَ حُرُوف مِنْ حُرُوف الْمُعْجَم اُسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا فِي أَوَائِل السُّوَر عَنْ ذِكْر بِوَاقِيهَا الَّتِي هِيَ تَتِمَّة الثَّمَانِيَة وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا , كَمَا اِسْتَغْنَى الْمُخْبِر عَمَّنْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ فِي حُرُوف الْمُعْجَم الثَّمَانِيَة وَالْعِشْرِينَ بِذِكْرِ " أ ب ت ث " عَنْ ذِكْر بِوَاقِي حُرُوفهَا الَّتِي هِيَ تَتِمَّة الثَّمَانِيَة وَالْعِشْرِينَ , قَالَ : وَلِذَلِكَ رُفِعَ { ذَلِكَ الْكِتَاب } لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَام : الْأَلِف وَاللَّام وَالْمِيم مِنْ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة { ذَلِكَ الْكِتَاب } الَّذِي أَنْزَلْته إِلَيْك مَجْمُوعًا { لَا رَيْب فِيهِ } . فَإِنْ قَالَ قَائِل : فَإِنَّ " أ ب ت ث " قَدْ صَارَتْ كَالِاسْمِ فِي حُرُوف الْهِجَاء كَمَا صَارَتْ الْحَمْد اِسْمًا لِفَاتِحَةِ الْكِتَاب . قِيلَ لَهُ : لَمَّا كَانَ جَائِزًا أَنْ يَقُول الْقَائِل : اِبْنِي فِي " ط ظ " , وَكَانَ مَعْلُومًا بِقِيلِهِ ذَلِكَ لَوْ قَالَهُ أَنَّهُ يُرِيد الْخَبَر عَنْ اِبْنه أَنَّهُ فِي الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة , عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ " أ ب ت ث " لَيْسَ لَهَا بِاسْمٍ , وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ آثَر فِي الذِّكْر مِنْ سَائِرهَا. قَالَ : وَإِنَّمَا خُولِفَ بَيْن ذِكْر حُرُوف الْمُعْجَم فِي فَوَاتِح السُّوَر , فَذُكِرَتْ فِي أَوَائِلهَا مُخْتَلِفَة , وَذِكْرهَا إِذَا ذُكِرَتْ بِأَوَائِلِهَا الَّتِي هِيَ " أ ب ت ث " مُؤْتَلِفَة لِيُفْصَل بَيْن الْخَبَر عَنْهَا , إِذَا أُرِيدَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا مُخْتَلِفًا الدَّلَالَة عَلَى الْكَلَام الْمُتَّصِل , وَإِذَا أُرِيدَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا مُؤْتَلِفًا الدَّلَالَة عَلَى الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة بِأَعْيَانِهَا . وَاسْتَشْهَدُوا - الْإِجَازَة قَوْل الْقَائِل : اِبْنِي فِي " ط ظ " , وَمَا أَشْبَه ذَلِكَ مِنْ الْخَبَر عَنْهُ أَنَّهُ فِي حُرُوف الْمُعْجَم , وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِيله فِي الْبَيَان يَقُوم مَقَام قَوْله : " اِبْنِي فِي أ ب ت ث " بِرَجَزِ بَعْض الرُّجَّاز مِنْ بَنِي أَسَد : لَمَّا رَأَيْت أَمْرهَا فِي حُطِّي وَفَنَكَتْ فِي كَذِب وَلَطِّ أَخَذْت مِنْهَا بِقُرُونٍ شُمْطِ فَلَمْ يَزَلْ ضَرْبِي بِهَا وَمَعْطِي حَتَّى عَلَا الرَّأْس دَم يُغَطِّي فَزَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْخَبَر عَنْ الْمَرْأَة أَنَّهَا فِي " أبي جاد " , فَأَقَامَ قَوْله : " لَمَّا رَأَيْت أَمْرهَا فِي حُطِّي " مَقَام خَبَره عَنْهَا أَنَّهَا فِي " أبي جاد " , إِذْ كَانَ ذَاكَ مِنْ قَوْله يَدُلّ سَامِعه عَلَى مَا يَدُلّهُ عَلَيْهِ قَوْله : لَمَّا رَأَيْت أَمْرهَا فِي أبي جاد . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ اُبْتُدِئَتْ بِذَلِكَ أَوَائِل السُّوَر لِيَفْتَح لِاسْتِمَاعِهِ أَسْمَاع الْمُشْرِكِينَ , إِذْ تَوَاصَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الْقُرْآن , حَتَّى إِذَا اِسْتَمَعُوا لَهُ تُلِيَ عَلَيْهِمْ الْمُؤَلَّف مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضهمْ : الْحُرُوف الَّتِي هِيَ فَوَاتِح السُّوَر حُرُوف يَسْتَفْتِح اللَّه بِهَا كَلَامه . فَإِنْ قِيلَ : هَلْ يَكُون مِنْ الْقُرْآن مَا لَيْسَ لَهُ مَعْنًى ؟ فَإِنَّ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ اِفْتَتَحَ بِهَا لِيُعْلَم أَنَّ السُّورَة الَّتِي قَبْلهَا قَدْ اِنْقَضَتْ , وَأَنَّهُ قَدْ أُخِذَ فِي أُخْرَى , فَجُعِلَ هَذَا عَلَامَة اِنْقِطَاع مَا بَيْنهمَا , وَذَلِكَ فِي كَلَام الْعَرَب يُنْشِد الرَّجُل مِنْهُمْ الشِّعْر فَيَقُول : بَلْ وَبَلْدَة مَا الْإِنْس مِنْ آهَالهَا وَيَقُول : لَا بَلْ مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا و " بَلْ " لَيْسَتْ مِنْ الْبَيْت وَلَا تُعَدّ فِي وَزْنه , وَلَكِنْ يَقْطَع بِهَا كَلَامًا وَيَسْتَأْنِف الْآخَر . قَالَ أَبُو جَعْفَر : وَلِكُلِّ قَوْل مِنْ الْأَقْوَال الَّتِي قَالَهَا الَّذِينَ وَصَفْنَا قَوْلهمْ فِي ذَلِكَ وَجْه مَعْرُوف . فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : { الم } اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن , فَلِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا أَنَّ : { الم } اِسْم لِلْقُرْآنِ كَمَا الْفُرْقَان اِسْم لَهُ . وَإِذَا كَانَ مَعْنَى قَائِل ذَلِكَ كَذَلِكَ , كَانَ تَأْوِيل قَوْله : { الم } ذَلِكَ الْكِتَاب عَلَى مَعْنَى الْقَسَم ; كَأَنَّهُ قَالَ : وَالْقُرْآن هَذَا الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ . وَالْآخَر مِنْهُمَا أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا أَنَّهُ اِسْم مِنْ أَسْمَاء السُّورَة الَّتِي تُعْرَف بِهِ كَمَا تُعْرَف سَائِر الْأَشْيَاء بِأَسْمَائِهَا الَّتِي هِيَ لَهَا أَمَارَات تُعْرَف بِهَا , فَيَفْهَم السَّامِع مَنْ الْقَائِل يَقُول : قَرَأْت الْيَوْم { المص } و { ن } أَيْ السُّورَة الَّتِي قَرَأَهَا مِنْ سُوَر الْقُرْآن , كَمَا يُفْهَم عَنْهُ إِذَا قَالَ : لَقِيت الْيَوْم عَمْرًا وَزَيْدًا , وَهُمَا بِزَيْدٍ وَعُمَر وَعَارِفَانِ مَنْ الَّذِي لَقِيَ مِنْ النَّاس . وَإِنْ أَشْكَلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى اِمْرِئٍ فَقَالَ : وَكَيْفَ يَجُوز أَنْ يَكُون ذَلِكَ كَذَلِكَ وَنَظَائِر الم المر فِي الْقُرْآن جَمَاعَة مِنْ السُّوَر ؟ وَإِنَّمَا تَكُون الْأَسْمَاء أَمَارَات , إِذَا كَانَتْ مُمَيَّزَة بَيْن الْأَشْخَاص , فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ غَيْر مُمَيَّزَة فَلَيْسَتْ أَمَارَات . قِيلَ : إِنَّ الْأَسْمَاء وَإِنْ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ لِاشْتِرَاكِ كَثِير مِنْ النَّاس فِي الْوَاحِد مِنْهَا غَيْر مُمَيَّزَة إِلَّا بِمَعَانٍ أُخَر مَعَهَا مِنْ ضَمّ نِسْبَة الْمُسَمَّى بِهَا إِلَيْهَا أَوْ نَعْته أَوْ صِفَته بِمَا يُفَرَّق بَيْنه وَبَيْن غَيْره مِنْ أَشْكَالهَا , فَإِنَّهَا وُضِعَتْ اِبْتِدَاء لِلتَّمْيِيزِ لَا شَكّ ثُمَّ اُحْتِيجَ عِنْد الِاشْتِرَاك إِلَى الْمَعَانِي الْمُفَرَّقَة بَيْن الْمُسَمَّى بِهَا. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي أَسْمَاء السُّوَر , جُعِلَ كُلّ اِسْم - فِي قَوْل قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة - أَمَارَة لِلْمُسَمَّى بِهِ مِنْ السُّوَر فَلَمَّا شَارَكَ الْمُسَمَّى بِهِ فِيهِ غَيْره مِنْ سُوَر الْقُرْآن اِحْتَاجَ الْمُخْبِر عَنْ سُورَة مِنْهَا أَنْ يَضُمّ إِلَى اِسْمهَا الْمُسَمَّى بِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يُفَرَّق بِهِ لِلسَّامِعِ بَيْن الْخَبَر عَنْهَا وَعَنْ غَيْرهَا مِنْ نَعْت وَصِفَة أَوْ غَيْر ذَلِكَ , فَيَقُول الْمُخْبِر عَنْ نَفْسه إِنَّهُ تَلَا سُورَة الْبَقَرَة إِذَا سَمَّاهَا بِاسْمِهَا الَّذِي هُوَ { الم } قَرَأْت { الم } الْبَقَرَة , وَفِي آل عِمْرَان : قَرَأْت { الم } آل عِمْرَان , و { الم ذَلِكَ الْكِتَاب } و { الم اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم }. كَمَا لَوْ أَرَادَ الْخَبَر عَنْ رَجُلَيْنِ اِسْم كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عَمْرو , غَيْر أَنَّ أَحَدهمَا تَمِيمِيّ وَالْآخَر أَزْدِيّ , لَلَزِمَهُ أَنْ يَقُول لِمَنْ أَرَادَ إِخْبَاره عَنْهُمَا : لَقِيت عَمْرًا التَّمِيمِيّ وَعَمْرًا الْأَزْدِيّ , إِذْ كَانَ لَا فَرْق بَيْنهمَا وَبَيْن غَيْرهمَا مِمَّنْ يُشَارِكهُمَا فِي أَسْمَائِهِمَا إِلَّا بِنِسْبَتِهِمَا كَذَلِكَ , فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْل مَنْ تَأَوَّلَ فِي الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة أَنَّهَا أَسْمَاء لِلسُّوَرِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : ذَلِكَ فَوَاتِح يَفْتَتِح اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهَا كَلَامه , فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا ذَلِكَ إِلَى نَحْو الْمَعْنَى الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَمَّنْ حَكَيْنَا عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّة أَنَّهُ قَالَ : ذَلِكَ أَدِلَّة عَلَى اِنْقِضَاء سُورَة وَابْتِدَاء فِي أُخْرَى وَعَلَامَة لِانْقِطَاعِ مَا بَيْنهمَا , كَمَا جُعِلَتْ " بَلْ " فِي اِبْتِدَاء قَصِيدَة دَلَالَة عَلَى اِبْتِدَاء فِيهَا وَانْقِضَاء أُخْرَى قَبْلهَا كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ الْعَرَب إِذَا أَرَادُوا الِابْتِدَاء فِي إِنْشَاد قَصِيد ة , قَالُوا : بَلْ مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا و " بَلْ " لَيْسَتْ مِنْ الْبَيْت وَلَا دَاخِلَة فِي وَزْنه , وَلَكِنْ لِيَدُلّ بِهِ عَلَى قَطْع كَلَام وَابْتِدَاء آخَر . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : ذَلِكَ حُرُوف مُقَطَّعَة بَعْضهَا مِنْ أَسْمَاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَبَعْضهَا مِنْ صِفَاته , وَلِكُلِّ حَرْف مِنْ ذَلِكَ مَعْنًى غَيْر مَعْنَى الْحَرْف الْآخَر . فَإِنَّهُمْ نَحَوْا بِتَأْوِيلِهِمْ ذَلِكَ نَحْو قَوْل الشَّاعِر : قُلْنَا لَهَا قِفِي لَنَا قَالَتْ قَاف لَا تَحْسِبِي أَنَّا نَسِينَا الْإِيجَاف يَعْنِي بِقَوْلِهِ : قَالَتْ قَاف : قَالَتْ قَدْ وَقَفْت . فَدَلَّتْ بِإِظْهَارِ الْقَاف مِنْ وَوَقَفْت عَلَى مُرَادهَا مِنْ تَمَام الْكَلِمَة الَّتِي هِيَ " وَقَفْت " , فَصَرَفُوا قَوْله : { الم } وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ إِلَى نَحْو هَذَا الْمَعْنَى , فَقَالَ بَعْضهمْ : الْأَلِف أَلِف " أَنَا " , وَاللَّام لَام " اللَّه " , وَالْمِيم مِيم " أَعْلَم " , وَكُلّ حَرْف مِنْهَا دَالّ عَلَى كَلِمَة تَامَّة . قَالُوا : فَجُمْلَة هَذِهِ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة إِذَا ظَهَرَ مَعَ كُلّ حَرْف مِنْهُنَّ تَمَام حُرُوف الْكَلِمَة " أَنَا " اللَّه أَعْلَم ". قَالُوا : وَكَذَلِكَ سَائِر جَمِيع مَا فِي أَوَائِل سُوَر الْقُرْآن مِنْ ذَلِكَ , فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَبِهَذَا التَّأْوِيل . قَالُوا : وَمُسْتَفِيض ظَاهِر فِي كَلَام الْعَرَب أَنْ يُنْقِص الْمُتَكَلِّم مِنْهُمْ مِنْ الْكَلِمَة الْأَحْرُف إِذَا كَانَ فِيمَا بَقِيَ دَلَالَة عَلَى مَا حُذِفَ مِنْهَا , وَيَزِيد فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ الزِّيَادَة مُلَبِّسَة مَعْنَاهَا عَلَى سَامِعهَا كَحَذْفِهِمْ فِي النَّقْص فِي التَّرْخِيم مِنْ " حَارِث " " الثَّاء " فَيَقُولُونَ : يَا حَارِ , وَمِنْ " مَالِك " " الْكَاف " فَيَقُولُونَ : يَا مَالِ , وَأَمَّا أَشْبَهَ ذَلِكَ . وَكَقَوْلِ رَاجِزهمْ مَا لِلظَّلِيمِ عَالَ كَيْفَ لَا يَا يَنْقَدّ عَنْهُ جِلْده إِذَا يَا كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُول : إِذَا يَفْعَل كَذَا وَكَذَا , فَاكْتَفَى بِالْيَاءِ مِنْ وَيَفْعَل , وَكَمَا قَالَ آخَر مِنْهُمْ : بِالْخَيْرِ خَيْرَات وَإِنْ شَرًّا فَا يُرِيد فَشَرًّا . وَلَا أُرِيد الشَّرّ إِلَّا أَنْ تَا يُرِيد إِلَّا أَنْ تَشَاء . فَاكْتَفَى بِالتَّاءِ وَالْفَاء فِي الْكَلِمَتَيْنِ جَمِيعًا مِنْ سَائِر حُرُوفهمَا , وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ مِنْ الشَّوَاهِد الَّتِي يَطُول الْكِتَاب بِاسْتِيعَابِهِ . وَكَمَا : 199 - حَدَّثني يَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيم , قَالَ : حَدَّثَنَا اِبْن عُلَيَّة , عَنْ أَيُّوب وَابْن عَوْن , عَنْ مُحَمَّد , قَالَ : لَمَّا مَاتَ يَزِيد بْن مُعَاوِيَة , قَالَ لِي عَبْدَة : إِنِّي لَا أُرَاهَا إِلَّا كَائِنَة فِتْنَة فَافْزَعْ مِنْ ضَيْعَتك وَالْحَقْ بِأَهْلِك ! قُلْت : فَمَا تَأْمُرنِي ؟ قَالَ : أَحَبّ إِلَيَّ لَك أَنْ تَا - قَالَ أَيُّوب وَابْن عَوْن بِيَدِهِ تَحْت خَدّه الْأَيْمَن يَصِف الِاضْطِجَاع - حَتَّى تَرَى أَمْرًا تَعْرِفهُ قَالَ أَبُو جَعْفَر : يَعْنِي ب " تَا " تَضْطَجِع , فَاجْتَزَأَ بِالتَّاءِ مِنْ تَضْطَجِع. وَكَمَا قَالَ الْآخَر فِي الزِّيَادَة فِي الْكَلَام عَلَى النَّحْو الَّذِي وَصَفْت : أَقُول إِذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَال يَا نَاقَتِي مَا جُلْت مِنْ مَجَال يُرِيد الْكَلْكَل . وَكَمَا قَالَ الْآخَر : إِنَّ شَكْلِي وَإِنَّ شَكْلك شَتَّى فَالْزَمِي الْخُصّ , وَاخْفِضِي تَبْيَضِضِّي فَزَادَ ضَادًا وَلَيْسَتْ فِي الْكَلِمَة. قَالُوا : فَكَذَلِكَ مَا نَقَصَ مِنْ تَمَام حُرُوف كُلّ كَلِمَة مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَات الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا تَتِمَّة حُرُوف { الم } وَنَظَائِرهَا , نَظِير مَا نَقَصَ مِنْ الْكَلَام الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ الْعَرَب فِي أَشْعَارهَا وَكَلَامهَا . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : كُلّ حَرْف مِنْ { الم } وَنَظَائِرهَا دَالّ عَلَى مَعَانٍ شَتَّى نَحْو الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس , فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا ذَلِكَ إِلَى مِثْل الَّذِي وَجَّهَهُ إِلَيْهِ مَنْ قَالَ هُوَ بِتَأْوِيلِ : " أَنَا اللَّه أَعْلَم " فِي أَنَّ كُلّ حَرْف مِنْهُ بَعْض حُرُوف كَلِمَة تَامَّة اُسْتُغْنِيَ بِدَلَالَتِهِ عَلَى تَمَامه عَنْ ذِكْر تَمَامه , وَإِنْ كَانُوا لَهُ مُخَالِفِينَ فِي كُلّ حَرْف مِنْ ذَلِكَ , أَهُوَ مِنْ الْكَلِمَة الَّتِي اِدَّعَى أَنَّهُ مِنْهَا قَائِلُو الْقَوْل الْأَوَّل أَمْ مِنْ غَيْرهَا ؟ فَقَالُوا : بَلْ الْأَلِف مِنْ { الم } مِنْ كَلِمَات شَتَّى هِيَ دَالَّة عَلَى مَعَانِي جَمِيع ذَلِكَ وَعَلَى تَمَامه . قَالُوا : وَإِنَّمَا أَفْرَدَ كُلّ حَرْف مِنْ ذَلِكَ وَقَصَّرَ بِهِ عَنْ تَمَام حُرُوف الْكَلِمَة أَنَّ جَمِيع حُرُوف الْكَلِمَة لَوْ أُظْهِرَتْ لَمْ تَدُلّ الْكَلِمَة الَّتِي تَظْهَر بَعْض هَذِهِ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة بَعْض لَهَا , إِلَّا عَلَى مَعْنًى وَاحِد لَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ وَأَكْثَر مِنْهُمَا . قَالُوا : وَإِذَا كَانَ لَا دَلَالَة فِي ذَلِكَ لَوْ أُظْهِرَ جَمِيعهَا إِلَّا عَلَى مَعْنَاهَا الَّذِي هُوَ مَعْنًى وَاحِد , وَكَانَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَرَادَ الدَّلَالَة بِكُلِّ حَرْف مِنْهَا عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَة لِشَيْءٍ وَاحِد , لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُفْرَد . الْحَرْف الدَّالّ عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي , لِيَعْلَم الْمُخَاطَبُونَ بِهِ أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْصِد قَصْد مَعْنًى وَاحِد وَدَلَالَة عَلَى شَيْء وَاحِد بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ , وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ الدَّلَالَة [ بِهِ ] عَلَى أَشْيَاء كَثِيرَة . قَالُوا : فَالْأَلِف مِنْ { الم } مُقْتَضِيَة مَعَانِي كَثِيرَة , مِنْهَا : إِتْمَام اِسْم الرَّبّ الَّذِي هُوَ اللَّه , وَتَمَام اِسْم نَعْمَاء اللَّه الَّتِي هِيَ آلَاء اللَّه , وَالدَّلَالَة عَلَى أَجَل قَوْم أَنَّهُ سَنَة , إِذَا كَانَتْ الْأَلِف فِي حِسَاب الْجُمَّل وَاحِدًا . وَاللَّام مُقْتَضِيَة تَمَام اِسْم اللَّه الَّذِي هُوَ لَطِيف , وَتَمَام اِسْم فَضْله الَّذِي هُوَ لُطْف , وَالدَّلَالَة عَلَى أَجَل قَوْم أَنَّهُ ثَلَاثُونَ سَنَة . وَالْمِيم مُقْتَضِيَة تَمَام اِسْم اللَّه الَّذِي هُوَ مَجِيد , وَتَمَام اِسْم عَظَمَته الَّتِي هِيَ مَجْد , وَالدَّلَالَة عَلَى أَجَل قَوْم أَنَّهُ أَرْبَعُونَ سَنَة . فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَام فِي تَأْوِيل قَائِل الْقَوْل الْأَوَّل : أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ اِفْتَتَحَ كَلَامه بِوَصْفِ نَفْسه بِأَنَّهُ الْعَالِم الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء , وَجَعَلَ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ مَنْهَجًا يَسْلُكُونَهُ فِي مُفْتَتَح خُطَبهمْ وَرَسَائِلهمْ وَمُهِمّ أُمُورهمْ , وَابْتِلَاء مِنْهُ لَهُمْ لِيَسْتَوْجِبُوا بِهِ عَظِيم الثَّوَاب فِي دَار الْجَزَاء , كَمَا اِفْتَتَحَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ , و { الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض } 6 1 وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ مِنْ السُّوَر الَّتِي جَعَلَ مَفَاتِحهَا الْحَمْد لِنَفْسِهِ . وَكَمَا جَعَلَ مَفَاتِح بَعْضهَا تَعْظِيم نَفْسه وَإِجْلَالهَا بِالتَّسْبِيحِ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ { سُبْحَان الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } 17 1 وَمَا أَشَبَه ذَلِكَ مِنْ سَائِر سُوَر الْقُرْآن الَّتِي جَعَلَ مَفَاتِح بَعْضهَا تَحْمِيد نَفْسه , وَمَفَاتِح بَعْضهَا تَمْجِيدهَا , وَمَفَاتِح بَعْضهَا تَعْظِيمهَا وَتَنْزِيههَا . فَكَذَلِكَ جَعَلَ مَفَاتِح السُّوَر الْأُخْرَى الَّتِي أَوَائِلهَا بَعْض حُرُوف الْمُعْجَم مَدَائِح نَفْسه أَحْيَانًا بِالْعِلْمِ , وَأَحْيَانًا بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَاف , وَأَحْيَانًا بِالْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَان بِإِيجَازٍ وَاخْتِصَار , ثُمَّ اِقْتِصَاص الْأُمُور بَعْد ذَلِكَ . وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيل يَجِب أَنْ يَكُون الْأَلِف وَاللَّام وَالْمِيم فِي أَمَاكِن الرَّفْع مَرْفُوعًا بَعْضهَا بِبَعْضٍ دُون قَوْله : { ذَلِكَ الْكِتَاب } وَيَكُون ذَلِكَ الْكِتَاب خَبَر مُبْتَدَأ مُنْقَطِعًا عَنْ مَعْنَى { الم } , وَكَذَلِكَ " ذَلِكَ " فِي تَأْوِيل قَوْل قَائِل هَذَا الْقَوْل الثَّانِي مَرْفُوع بَعْضه بِبَعْضٍ , وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْل قَائِل الْقَوْل الْأَوَّل . وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : هُنَّ حُرُوف مِنْ حُرُوف حِسَاب الْجُمَّل دُون مَا خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي , فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَا نَعْرِف لِلْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَة مَعْنًى يُفْهَم سِوَى حِسَاب الْجُمَّل وَسِوَى تَهَجِّي قَوْل الْقَائِل : { الم } . وَقَالُوا : غَيْر جَائِز أَنْ يُخَاطِب اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَاده إِلَّا بِمَا يَفْهَمُونَهُ وَيَعْقِلُونَهُ عَنْهُ . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ - وَكَانَ قَوْله : { الم } لَا يُعْقَل لَهَا وَجْه تُوَجَّه إِلَيْهِ إِلَّا أَحَد الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا , فَبَطَلَ أَحَد وَجْهَيْهِ , وَهُوَ أَنْ يَكُون مُرَادًا بِهَا تَهَجِّي . { الم } - صَحَّ وَثَبَتَ أَنَّهُ مُرَاد بِهِ الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ حِسَاب الْجُمَّل ; لِأَنَّ قَوْل الْقَائِل : { الم } لَا يَجُوز أَنْ يَلِيَهُ مِنْ الْكَلَام ذَلِكَ الْكِتَاب لِاسْتِحَالَةِ مَعْنَى الْكَلَام وَخُرُوجه عَنْ الْمَعْقُول إِذَا وَلِيَ { الم } ذَلِكَ الْكِتَاب . وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَا : 200 -حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّد بْن حُمَيْد الرَّازِيّ , قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَة بْن الْفَضْل . قَالَ : حَدَّثني مُحَمَّد بْن إِسْحَاق , قَالَ : حَدَّثني الْكَلْبِيّ , عَنْ أَبِي صَالِح , عَنْ اِبْن عَبَّاس , عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه بْن رِئَاب , قَالَ : مَرَّ أَبُو يَاسِر بْن أَخْطَب بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَة سُورَة الْبَقَرَة : { الم ذَلِكَ الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ } فَأَتَى أَخَاهُ حُيَيّ بْن أَخْطَب فِي رِجَال مِنْ يَهُود فَقَالَ : تَعْلَمُونَ وَاَللَّه لَقَدْ سَمِعْت مُحَمَّدًا يَتْلُو فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ : { الم ذَلِكَ الْكِتَاب } فَقَالُوا : أَنْتَ سَمِعْته ؟ قَالَ : نَعَمْ فَمَشَى حُيَيّ بْن أَخْطَب فِي أُولَئِكَ النَّفَر مِنْ يَهُود إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالُوا : يَا مُحَمَّد أَلَمْ يُذْكَر لَنَا أَنَّك تَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْك : { الم ذَلِكَ الْكِتَاب } ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " بَلَى " فَقَالُوا : أَجَاءَك بِهَذَا جِبْرِيل مِنْ عِنْد اللَّه ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ! قَالُوا : لَقَدْ بَعَثَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَبْلك أَنْبِيَاء مَا نَعْلَمهُ بَيْن لِنَبِيٍّ مِنْهُمْ مَا مُدَّة مُلْكه وَمَا أَجَل أُمَّته غَيْرك ! فَقَالَ حُيَيّ بْن أَخْطَب : وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ , فَقَالَ لَهُمْ : الْأَلِف وَاحِدَة , وَاللَّام ثَلَاثُونَ , وَالْمِيم أَرْبَعُونَ , فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَة , قَالَ : فَقَالَ لَهُمْ : أَتَدْخُلُونَ فِي دِين نَبِيّ إِنَّمَا مُدَّة مُلْكه وَأَجَل أُمَّته إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَة ؟ قَالَ : ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ , فَقَالَ : يَا مُحَمَّد هَلْ مَعَ هَذَا غَيْره ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ! قَالَ : مَاذَا ؟ قَالَ : " المص " قَالَ : هَذِهِ أَثْقَل وَأَطْوَل : الْأَلِف وَاحِدَة , وَاللَّام ثَلَاثُونَ , وَالْمِيم أَرْبَعُونَ , وَالصَّاد تِسْعُونَ. فَهَذِهِ مِائَة وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَة ; هَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمَّد غَيْره ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ! قَالَ : مَاذَا ؟ قَالَ : " الر " قَالَ : هَذِهِ أَثْقَل وَأَطْوَل الْأَلِف وَاحِدَة , وَاللَّام ثَلَاثُونَ , وَالرَّاء مِائَتَانِ , فَهَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَا سَنَة ; فَقَالَ : هَلْ مَعَ هَذَا غَيْره يَا مُحَمَّد ؟ قَالَ : " نَعَمْ المر " , قَالَ : فَهَذِهِ أَثْقَل وَأَطْوَل : الْأَلِف وَاحِدَة وَاللَّام ثَلَاثُونَ , وَالْمِيم أَرْبَعُونَ , وَالرَّاء مِائَتَانِ , فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَا سَنَة . ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ لُبِّسَ عَلَيْنَا أَمْرك يَا مُحَمَّد , حَتَّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلًا أُعْطِيت أَمْ كَثِيرًا ! ثُمَّ قَامُوا عَنْهُ , فَقَالَ أَبُو يَاسِر لِأَخِيهِ حُيَيّ بْن أَخْطَب وَلِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْأَحْبَار : مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا كُلّه لِمُحَمَّدٍ : إِحْدَى وَسَبْعُونَ , وَإِحْدَى وَسِتُّونَ وَمِائَة , وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ , وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ , فَذَلِكَ سَبْعمِائَةِ سَنَة وَأَرْبَع وَثَلَاثُونَ , فَقَالُوا : لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْره . وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَات نَزَلَتْ فِيهِمْ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات هُنَّ أُمّ الْكِتَاب وَأُخَر مُتَشَابِهَات } . 3 7 فَقَالُوا : قَدْ صَرَّحَ هَذَا الْخَبَر بِصِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيل وَفَسَاد مَا قَالَهُ مُخَالِفُونَا فِيهِ . وَالصَّوَاب مِنْ الْقَوْل عِنْدِي فِي تَأْوِيل مَفَاتِح السُّوَر الَّتِي هِيَ حُرُوف الْمُعْجَم : أَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَهَا حُرُوفًا مُقَطَّعَة وَلَمْ يَصِل بَعْضهَا بِبَعْضٍ فَيَجْعَلهَا كَسَائِرِ الْكَلَام الْمُتَّصِل الْحُرُوف ; لِأَنَّهُ عَزَّ ذِكْره أَرَادَ بِلَفْظِهِ الدَّلَالَة بِكُلِّ حَرْف مِنْهُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَة لَا عَلَى مَعْنًى وَاحِد , كَمَا قَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس , وَإِنْ كَانَ الرَّبِيع قَدْ اِقْتَصَرَ بِهِ عَلَى مَعَانٍ ثَلَاثَة دُون مَا زَادَ عَلَيْهَا . وَالصَّوَاب فِي تَأْوِيل ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ كُلّ حَرْف مِنْهُ يَحْوِي مَا قَالَهُ الرَّبِيع وَمَا قَالَهُ سَائِر الْمُفَسِّرِينَ غَيْره فِيهِ , سِوَى مَا ذَكَرْت مِنْ الْقَوْل عَمَّنْ ذَكَرْت عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّة أَنَّهُ كَانَ يُوَجِّه تَأْوِيل ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ حُرُوف هِجَاء اُسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهُ فِي مَفَاتِح السُّوَر عَنْ ذِكْر تَتِمَّة الثَّمَانِيَة وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا مِنْ حُرُوف الْمُعْجَم بِتَأْوِيلِ : إِنَّ هَذِهِ الْحُرُوف , ذَلِكَ الْكِتَاب , مَجْمُوعَة لَا رَيْب فِيهِ , فَإِنَّهُ قَوْل خَطَأ فَاسِد لِخُرُوجِهِ عَنْ أَقْوَال جَمِيع الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ , وَمَنْ بَعْدهمْ مِنْ الْخَالِفِينَ مِنْ أَهْل التَّفْسِير وَالتَّأْوِيل , فَكَفَى دَلَالَة عَلَى خَطَئِهِ شَهَادَة الْحُجَّة شَهَادَة الْحُجَّة عَلَيْهِ بِالْخَطَإ مَعَ إِبْطَال قَائِل ذَلِكَ قَوْله الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ , إِذْ صَارَ إِلَى الْبَيَان عَنْ رَفْع ذَلِكَ الْكِتَاب بِقَوْلِهِ مَرَّة إِنَّهُ مَرْفُوع كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ وَمَرَّة أُخْرَى أَنَّهُ مَرْفُوع بِالرَّاجِعِ مِنْ ذِكْره فِي قَوْله : { لَا رَيْب فِيهِ } وَمَرَّة بِقَوْلِهِ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَذَلِكَ تُرِكَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ إِنَّ { الم } رَافِعَة { ذَلِكَ الْكِتَاب } وَخُرُوج مِنْ الْقَوْل الَّذِي اِدَّعَاهُ فِي تَأْوِيل { الم ذَلِكَ الْكِتَاب } وَأَنَّ تَأْوِيل ذَلِكَ : هَذِهِ الْحُرُوف ذَلِكَ الْكِتَاب . فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِل : وَكَيْفَ يَجُوز أَنْ يَكُون حَرْف وَاحِد شَامِلًا الدَّلَالَة عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَة مُخْتَلِفَة ؟ قِيلَ : كَمَا جَازَ أَنْ تَكُون كَلِمَة وَاحِدَة تَشْتَمِل عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَة مُخْتَلِفَة كَقَوْلِهِمْ لِلْجَمَاعَةِ مِنْ النَّاس : أُمَّة , وَلِلْحِينِ مِنْ الزَّمَان : أُمَّة , وَلِلرَّجُلِ الْمُتَعَبِّد الْمُطِيع لِلَّهِ : أُمَّة , وَلِلدِّينِ وَالْمِلَّة : أُمَّة . وَكَقَوْلِهِمْ لِلْجَزَاءِ وَالْقِصَاص : دِين , وَلِلسُّلْطَانِ وَالطَّاعَة : دِين , وَلِلتَّذَلُّلِ : دِين , وَلِلْحِسَابِ : دِين ; فِي أَشْبَاه لِذَلِكَ كَثِيرَة يَطُول الْكِتَاب بِإِحْصَائِهَا مِمَّا يَكُون مِنْ الْكَلَام بِلَفْظٍ وَاحِد , وَهُوَ مُشْتَمِل عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَة . وَكَذَلِكَ قَوْل اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ : " الم وَالمر " و " المص " وَمَا أَشْبَه ذَلِكَ مِنْ حُرُوف الْمُعْجَم الَّتِي هِيَ فَوَاتِح أَوَائِل السُّوَر , كُلّ حَرْف مِنْهَا دَالّ عَلَى مَعَانٍ شَتَّى , شَامِل جَمِيعهَا مِنْ أَسْمَاء اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَصِفَاته مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ الْأَقْوَال الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُمْ ; وَهُنَّ مَعَ ذَلِكَ فَوَاتِح السُّوَر كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ . وَلَيْسَ كَوْن ذَلِكَ مِنْ حُرُوف أَسْمَاء اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَصِفَاته بِمَانِعِهَا أَنْ تَكُون لِلسُّوَرِ فَوَاتِح ; لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ اِفْتَتَحَ كَثِيرًا مِنْ سُوَر الْقُرْآن بِالْحَمْدِ لِنَفْسِهِ وَالثَّنَاء عَلَيْهَا , وَكَثِيرًا مِنْهَا بِتَمْجِيدِهَا وَتَعْظِيمهَا , فَغَيْر مُسْتَحِيل أَنْ يَبْتَدِئ بَعْض ذَلِكَ بِالْقَسَمِ بِهَا . فَاَلَّتِي اُبْتُدِئَ أَوَائِلهَا بِحُرُوفِ الْمُعْجَم أَحَد مَعَانِي أَوَائِلهَا أَنَّهُنَّ فَوَاتِح مَا اِفْتَتَحَ بِهِنَّ مِنْ سُوَر الْقُرْآن , وَهُنَّ مِمَّا أَقْسَمَ بِهِنَّ ; لِأَنَّ أَحَد مَعَانِيهنَّ أَنَّهُنَّ مِنْ حُرُوف أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى ذِكْره وَصِفَاته عَلَى مَا قَدَّمْنَا الْبَيَان عَنْهَا , وَلَا شَكّ فِي صِحَّة مَعْنَى الْقَسَم بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاته , وَهُنَّ مِنْ حُرُوف حِسَاب الْجُمَّل , وَهُنَّ لِلسُّوَرِ الَّتِي اُفْتُتِحَتْ بِهِنَّ شِعَار وَأَسْمَاء . فَذَلِكَ يَحْوِي مَعَانِيَ جَمِيع مَا وَصَفْنَا مِمَّا بَيَّنَّا مِنْ وُجُوهه , لِأَنَّ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ الدَّلَالَة عَلَى مَعْنًى وَاحِد مِمَّا يَحْتَمِلهُ ذَلِكَ دُون سَائِر الْمَعَانِي غَيْره , لَأَبَانَ ذَلِكَ لَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِبَانَة غَيْر مُشْكِلَة , إِذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ كِتَابه عَلَى رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَيِّن لَهُمْ مَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ . وَفِي تَرْكه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ إِبَانَة ذَلِكَ أَنَّهُ مُرَاد بِهِ مِنْ وُجُوه تَأْوِيله الْبَعْض دُون الْبَعْض أَوْضَح الدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ مُرَاد بِهِ جَمِيع وُجُوهه الَّتِي هُوَ لَهَا مُحْتَمِل , إِذْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِيلًا فِي الْعَقْل وَجْه مِنْهَا أَنْ يَكُون مِنْ تَأْوِيله وَمَعْنَاهُ كَمَا كَانَ غَيْر مُسْتَحِيل اِجْتِمَاع الْمَعَانِي الْكَثِيرَة لِلْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة بِاللَّفْظِ الْوَاحِد فِي كَلَام وَاحِد . وَمَنْ أَبَى مَا قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ سُئِلَ الْفَرْق بَيْن ذَلِكَ وَبَيْن سَائِر الْحُرُوف الَّتِي تَأْتِي بِلَفْظٍ وَاحِد مَعَ اِشْتِمَالهَا عَلَى الْمَعَانِي الْكَثِيرَة الْمُخْتَلِفَة كَالْأُمَّةِ وَالدِّين وَمَا أَشْبه ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال . فَلَنْ يَقُول فِي أَحَد ذَلِكَ قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْأُخَر مِثْله . وَكَذَلِكَ يُسْأَل كُلّ مَنْ تَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْه دُون الْأَوْجُه الْأُخَر الَّتِي وَصَفْنَا عَنْ الْبُرْهَان عَلَى دَعْوَاهُ مِنْ الْوَجْه الَّذِي يُحِبّ التَّسْلِيم لَهُ ثُمَّ يُعَارَض بِقَوْلِهِ يُخَالِفهُ فِي ذَلِكَ , وَيُسْأَل الْفَرْق بَيْنه وَبَيْنه : مِنْ أَصْل , أَوْ مِمَّا يَدُلّ عَلَيْهِ أَصْل , فَلَنْ يَقُول فِي أَحَدهمَا قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْأُخَر مِثْله . وَأَمَّا الَّذِي زَعَمَ مِنْ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ ذَلِكَ نَظِير " بَلْ " فِي قَوْل الْمُنْشِد شِعْرًا : بَلْ مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ , وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَة فِي الْكَلَام مَعْنَاهُ الطَّرْح ; فَإِنَّهُ أَخْطَأَ مِنْ وُجُوه شَتَّى : أَحَدهَا : أَنَّهُ وَصَفَ اللَّه تَعَالَى ذِكْره بِأَنَّهُ خَاطَبَ الْعَرَب بِغَيْرِ مَا هُوَ مِنْ لُغَتهَا وَغَيْر مَا هُوَ فِي لُغَة أَحَد مِنْ الْآدَمِيِّينَ , إِذْ كَانَتْ الْعَرَب وَإِنْ كَانَتْ قَدْ كَانَتْ تَفْتَتِح أَوَائِل إِنْشَادهَا مَا أَنْشَدَتْ مِنْ الشِّعْر ب " بَلْ " , فَإِنَّهُ مَعْلُوم مِنْهَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَبْتَدِئ شَيْئًا مِنْ الْكَلَام ب " الم " و " الر " و " المص " بِمَعْنَى اِبْتِدَائِهَا ذَلِكَ ب " بَلْ " . وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ اِبْتِدَائِهَا , وَكَانَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَهُمْ مِنْ الْقُرْآن بِمَا يَعْرِفُونَ مِنْ لُغَاتهمْ وَيَسْتَعْمِلُونَ بَيْنهمْ مِنْ مَنْطِقهمْ فِي جَمِيع آيِهِ , فَلَا شَكّ أَنَّ سَبِيل مَا وَصَفْنَا مِنْ حُرُوف الْمُعْجَم الَّتِي اُفْتُتِحَتْ بِهَا أَوَائِل السُّوَر الَّتِي هُنَّ لَهَا فَوَاتِح سَبِيل سَائِر الْقُرْآن فِي أَنَّهُ لَمْ يُعْدَل بِهَا عَنْ لُغَاتهمْ الَّتِي كَانُوا بِهَا عَارِفِينَ وَلَهَا بَيْنهمْ فِي مَنْطِقهمْ مُسْتَعْمِلِينَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ سَبِيل لُغَاتهمْ وَمَنْطِقهمْ كَانَ خَارِجًا عَنْ مَعْنَى الْإِبَانَة الَّتِي وَصَفَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهَا الْقُرْآن , فَقَالَ تَعَالَى ذِكْره : { نَزَلَ بِهِ الرُّوح الْأَمِين عَلَى قَلْبك لِتَكُونَ مِنْ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُبِين }. 26 193 : 195 وَأَنَّى يَكُون مُبِينًا مَا لَا يَعْقِلهُ وَلَا يَفْقَههُ أَحَد مِنْ الْعَالَمِينَ فِي قَوْل قَائِل هَذِهِ الْمَقَالَة , وَلَا يُعْرَف فِي مَنْطِق أَحَد مِنْ الْمَخْلُوقِينَ فِي قَوْله ؟ وَفِي إِخْبَار اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَرَبِيّ مُبِين مَا يُكَذِّب هَذِهِ الْمَقَالَة , وَيُنْبِئ عَنْهُ أَنَّ الْعَرَب كَانُوا بِهِ عَالِمِينَ وَهُوَ لَهَا مُسْتَبِين . فَذَلِكَ أَحَد أَوْجُه خَطَئِهِ . وَالْوَجْه الثَّانِي مِنْ خَطَئِهِ فِي ذَلِكَ : إِضَافَته إِلَى اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ خَاطَبَ عِبَاده بِمَا لَا فَائِدَة لَهُمْ فِيهِ وَلَا مَعْنًى لَهُ مِنْ الْكَلَام الَّذِي سَوَاء الْخِطَاب بِهِ وَتَرْك الْخِطَاب بِهِ , وَذَلِكَ إِضَافَة الْعَبَث الَّذِي هُوَ مَنْفِيّ فِي قَوْل جَمِيع الْمُوَحِّدِينَ عَنْ اللَّه , إِلَى اللَّه تَعَالَى ذِكْره . وَالْوَجْه الثَّالِث مِنْ خَطَئِهِ : أَنَّ " بَلْ " فِي كَلَام الْعَرَب مَفْهُوم تَأْوِيلهَا وَمَعْنَاهَا , وَأَنَّهَا تَدْخُلهَا فِي كَلَامهَا رُجُوعًا عَنْ كَلَام لَهَا قَدْ تَقَضَّى كَقَوْلِهِمْ : مَا جَاءَنِي أَخُوك بَلْ أَبُوك ; وَمَا رَأَيْت عَمْرًا بَلْ عَبْد اللَّه , وَمَا أَشْبه ذَلِكَ مِنْ الْكَلَام , كَمَا قَالَ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَة : وَلَأَشْرَبَن ثَمَانِيًا وَثَمَانِيًا وَثَلَاث عَشْرَة وَاثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعَا وَمَضَى فِي كَلِمَته حَتَّى بَلَغَ قَوْله : بِالْجُلَّسَانِ وَطَيِّب أَرْدَانُهُ بِالْوَنِّ يَضْرِب لِي يَكُرّ الْأُصْبُعَا ثُمَّ قَالَ : بَلْ عُدَّ هَذَا فِي قَرِيض غَيْره وَاذْكُرْ فَتًى سَمْح الْخَلِيقَة أَرْوَعَا فَكَأَنَّهُ قَالَ : دَعْ هَذَا وَخُذْ فِي قَرِيض غَيْره . ف " بَلْ " إِنَّمَا يَأْتِي فِي كَلَام الْعَرَب عَلَى هَذَا النَّحْو مِنْ الْكَلَام . فَأَمَّا إِفْسَاحًا لِكَلَامِهَا مُبْتَدَأ بِمَعْنَى التَّطْوِيل وَالْحَذْف مِنْ غَيْر أَنْ يَدُلّ عَلَى مَعْنًى , فَذَلِكَ مِمَّا لَا نَعْلَم أَحَدًا اِدَّعَاهُ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَة بِلِسَانِ الْعَرَب وَمَنْطِقهَا , سِوَى الَّذِي ذَكَرْت قَوْله , فَيَكُون ذَلِكَ أَصْلًا يُشْبِه بِهِ حُرُوف الْمُعْجَم الَّتِي هِيَ فَوَاتِح سُوَر الْقُرْآن الَّتِي اُفْتُتِحَتْ بِهَا لَوْ كَانَ لَهُ مُشْبِهَة , فَكَيْفَ وَهِيَ مِنْ الشَّبَه بِهِ بَعِيدَة ؟
كتب عشوائيه
- تذكير الأنام بشأن صلة الأرحامتذكير الأنام بشأن صلة الأرحام: رسالة مختصرة في التذكير بصلة الرحِم، وفضلها، وأحكامها، وفوائد تتعلَّق بها.
المؤلف : عبد الله بن صالح القصير
الناشر : شبكة الألوكة http://www.alukah.net
المصدر : http://www.islamhouse.com/p/330471
- قضايا تهم المرأةقضايا تهم المرأة : فقد رأيت أن أفرد من كتابي «الثمار اليانعة من الكلمات الجامعة» قضايا تهم المرأة، ونحو ربها ودينها ودنياها وآخرتها في الحث «على الزواج وبيان فوائده» والتحذير من غلاء المهور وبيان أضراره، وذكر العلاقات بين الزوجين في نظر الإسلام، وإباحة تعدد الزوجات في الإسلام، ووجوب الحجاب على المرأة المسلمة صيانة لها، وبيان ما يلزم المحدة على زوجها من الأحكام (وذكر خطورة الاختلاط بين الرجال والنساء غير المحارم). (وصفات نساء الجنة) (وصفات نساء النار، والحث على وقاية الأنفس والأهل من النار). «وبيان حكم مصافحة المرأة الأجنبية التي ليس محرما». «وبيان أحكام الحيض والاستحاضة والنفاس». «وما جاء في زكاة الحلي، وبيان تحريم تبرج النساء، واختلاطهن بالرجال والأمر بالحجاب، وأن النساء على النصف من الرجال في بعض الأحكام، وذكر نقد مساواة المرأة بالرجل على ضوء الإسلام».
المؤلف : عبد الله بن جار الله بن إبراهيم الجار الله
المصدر : http://www.islamhouse.com/p/209159
- التدبر حقيقته وعلاقته بمصطلحات التأويل والاستنباط والفهم والتفسيرالتدبر حقيقته وعلاقته بمصطلحات التأويل والاستنباط والفهم والتفسير: قال المؤلف: وأعني بهذه الدراسة البلاغية التحليلية أن تستقرأ جميع الآيات التي وردت فيها هذه المصطلحات، ودراستها كلها، ثم استنباط المعنى المراد من هذه المصطلحات كما قرره الذكر الحكيم في مختلف السياقات، ثم بيان الفروق الدلالية بينها بعد ذلك من واقع هذا التحليل البلاغي.
المؤلف : عبد الله عبد الغني سرحان
الناشر : مركز التدبر للاستشارات التربوية والتعليمية http://tadabbor.com
المصدر : http://www.islamhouse.com/p/332064
- دموع المآذن [ القاسم ]دموع المآذن: قال المصنف - حفظه الله -: «رسائل كثيرة كتبت.. وصداقات كثيرة انقطعت.. بقيت ثلاث رسائل... وبقيت محبة خالصة.. تقويها روابط الإسلام وتشدها وشائج الإيمان. يسقيها الصدق من منبعه والوفاء من معينه. ثلاث رسائل كتبت بصدق.. وحفظها الزمن.. تنثر بين يدي القارئ.. فلربما كان بحاجة إليها.. تقيل العثرة وتنير الطريق».
المؤلف : عبد الملك القاسم
الناشر : دار القاسم - موقع الكتيبات الإسلامية http://www.ktibat.com
المصدر : http://www.islamhouse.com/p/229609
- مصارف الزكاة في الإسلام في ضوء الكتاب والسنةمصارف الزكاة في الإسلام في ضوء الكتاب والسنة: قال المصنف - حفظه الله -: «فهذه رسالة مختصرة في «مصارف الزكاة في الإسلام» بيَّنت فيها مفهوم المصارف: لغة، واصطلاحًا، وأن الله حصر مصارف الزكاة بلا تعميم في العطاء، وذكرت أنواع المصارف الثمانية، وبيَّنت مفهوم كل مصرف: لغةً، واصطلاحًا، ونصيب كل نوع من المصارف، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة، وفضل الدفع لكل مصرف، ثم ذكرت أصناف وأنواع من لا يصحّ دفع الزكاة إليهم بالأدلة».
المؤلف : سعيد بن علي بن وهف القحطاني
الناشر : المكتب التعاوني للدعوة وتوعية الجاليات بالربوة http://www.IslamHouse.com
المصدر : http://www.islamhouse.com/p/193657